البيعة السياسية: بيعة بناء الدولة

البيعة هي المعاهدة على الطاعة والعمل بالكتاب والسنّة، وتكون لله وللرسول وللحاكم، ولا تكون البيعة مطلقة، بل تُحدَّد بأمور معينة، وأشهر بيعات النبي ست بيعات تمت في مكة، أولها بيعة العقبة الأولى سنة 11 من البعثة، وقد حقق أصحابها توسّعا دعويا في يثرب، حتى بات للإسلام صدى في كل بيت، وأضحت سيرة النبي على كل لسان ما بين معجَب ومتشوِّق ومتوجِّس، فكان من نتائج ذلك أن عقد المسلمون مؤتمرا في يثرب لنُصْرة النبي، وتساءلوا فيما بينهم: إلى متى يظل رسول الله يُطرَد في جبال مكة خائفا؟
ــ فانطلقوا إلى مكة سنة 13 من البعثة للحج ولنُصْرة النبي، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، والتقاهم النبي عند العقبة ليلا سرا حفاظا عليهم وحرصا على الاسلام، وكان بصحبة أبي بكر وعليّ وعمه العباس وهو كافر، لكنه حضر لحماية رسول الله، وهناك تمت بيعة العقبة الثانية، ينقل لنا أحدهم نص البيعة فيقول: {قال لنا النبي: تبايعونني؟ فقلنا: علامَ نبايعك؟ قال: عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشاط وَالكَسَل، وعلى النَّفَقَةِ فِي اليُسْرِ والْعُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ، لا يَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ، فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أَسْعَدُ بن زُرَارَة، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنّنا لم نضرب إليه أكباد المُطِيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافَّة وقتلُ خيارِكم وأن تَعُضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عضِّ السيوف إذا مسَّتكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافَّة فخذوه، وأجْرُكم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فــذروه، فهو أعذرُ لكم عند الله، فقلنا: ابسُط يدك يا أسعدُ، فوالله لا نَذَرُ هذه البيعة، فقمنا إليه نبايعه رجلًا رجلًا يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة}.
ــ المتأمل للنص يلحظ أن النبي يتكلم بصفته حاكما، فيأمرهم بالسمع والطاعة والإنفاق في جميع أحوالهم نشاطِهم وكَسَلِهم ويُسْرهم وعُسْرهم، ويؤخذ من هذا وجوب الطاعة للحاكم، والطاعة هنا مطلقة في حين جاءت في البيعة الأولى مقيدة بالمعروف، لأن أصحاب البيعة الأولى لم يعرفوا النبي أنه منزّه عن المنكر، فحدد طاعته بالمعروف، لكنهم في البيعة الثانية كانوا يعرفونه جيدا، فلم يحتَج النبي أن ينصّ على المعروف، ثم بايعهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينصلح حال الأمة أو الدولة إلا بذاك، لكن الأمر والنهي لهما ثلاث مراتب: الأولى بالقوة وهي مهمة المسئول كالحاكم للمحكومين وكالأب لأولاده، والثانية بالنصح وهي لكل يمتلك النصح مع قبوله من الآخر، والثالثة إنكار المنكر بالقلب، ثم أمرهم النبي بقول الحق ولو على أنفسهم، وهذه الصفة مهمة جدا لترسيخ العدل بين الناس، والله أمر بذلك حتى لو نتج عنه عتاب أو لوم من الآخرين، ثم بايعهم على حمايتهم له الدفاع عنه حتى الموت كما يدافعون عن أنفسهم وممتلكاتهم، ويستفاد من هذا أن الشعب مطالب بحماية الحاكم.
ــ ثم جعل النبي جزاءهم الجنة حال قبولهم البيعة، فقبلوها وشرعوا في مصافحته، فاستوقفهم أحدهم ليمحّص قلوبهم ويثبّت إيمانهم، فبيّن لهم العواقب الوخيمة المحتملة من البيعة مثل مفارقة العرب لهم وهو ما يسمى اليوم بــ”فرض حصار عليهم” وقتالهم، وهو أشبه بحصار الدول لدولة معينة ومحاربتها، لكن الإيمان كان قد تمكّن من قلوبهم، فأكدوا موافقتهم على البيعة، وأخذوا يصافحون النبي، فصافحهم جميعا إلا المرأتين، حيث لم يصافح النبي امرأة أجنبية، ثم شكّل منهم أول “حكومة ائتلافية” بشكل ديمقراطي، حيث اختاروا اثني عشرا رجلا من كبارهم، وقائدهم النبي ودستورهم القرآن، وكانت تلك الحكومة نواة الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتشكيل الحكومة على هذا النحو يجعلنا نصف هذه البيعة بالبيعة السياسية أو بيعة بناء الدولة.

 

بقلم  أ.د علاء الحمزاوي رئيس قسم اللغة العربية بآداب المنيا

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.