يوسف النبي وزيرا للمالية المصرية!

فسر يوسف النبي رؤيا الساقي ورؤيا الخباز، وطلب من الساقي أن يذكره بخير عند الملك، فنسي الساقي، فلبِثَ يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

ــ لكن الله أراد الخير ليوسف فهيّأ له أسبابه، وفي ذلك درس لنا في الثقة بالله، فإن أحاطت بك المشاكل والمصائب فاستعن بالله، ولا تشغل بالك بكيفية الخروج منها، وهذه اللقطة تعرض للأسباب التي نقلت يوسف من السجن إلى القصر، وقد بدأت برؤيا منامية للملك، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وكلمة (الملك) لها دلالة تاريخية، إذ تشير إلى أن مصر في تلك المرحلة الزمنية لم يكن يحكمها الفراعنة، وإنما يحكمها ملوك الهكسوس، وهم العمالقة الذين حكموا مصر قبل الفراعنة أكثر من ثلاثمائة سنة، مما يؤكد دقة التعبير القرآني، وقال: {أرى} ولم يقل: “رأيت”؛ استحضارا لصورة الرؤيا حتى كأنها ماثلة أمامه، و{عجاف} أي نحاف.

ــ انزعج الملك فاستدعى مفسّري الرؤيا لتفسير رؤياه {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}، وتعبير {أفتوني} يدل على أهمية الرؤيا للملك، فأخبروه بأن الرؤيا نوعان: رؤيا مستقيمة يمكن تفسيرها وتحقيقها، ورؤيا مضطربة يصعب تفسيرها وتُسمَّى “أضغاث أحلام”، والضِغث في اللغة هو الحشيش المختلط من رطب ويابس، ثم أُطلِق على الحُلم المستحيل تفسيره لاختلاط أحداثه.

ــ هنا استدعت ذاكرة الساقي يوسف فأخبر الملك بما حدث معه ومع الخباز، واستأذنه أن يذهب ليوسف في السجن لتفسير الرؤيا، فوافق الملك، {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}، ادّكر: تذكر، وأمّة: مدة زمنية؛ لأن الأمّة مجموعة من الناس، والمدة مجموعة من السنوات، واتسم الساقي بحسن الاستهلال، فوصف يوسف بالصدق والتصديق للحق، فقال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال: {أفتنا} ولم يقل: أخبرنا أو نبّئنا؛ لأن الفعل {أفتنا} يوحي بأهمية الفُتيا والقيمة العلمية للمفتي، فهو بمثابة هيئة علمية كاملة؛ لأن الفتوى تصدر عادة من هيئة علمية، فالساقي اعتبر يوسف هو المفتي الأول في مصر، ولم يذكر الساقي أن الرؤيا للملك، إنما قال {أفتنا}؛ ليعطي يوسف الحرية في تفسير الرؤيا دون أي تأثير، ولذلك قال له: {لعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}، ولم يقل: أرجع إلى الملك، وكأن الساقي يريد أن يعرف الناسُ جميعا منزلة يوسف.

ــ فسّر يوسف الرؤيا مازجا إياها بالنُّصح، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}، أي ستأتي سبع سنوات متوالية مليئة بالخير على مصر، فازرعوا كثيرا وادخروا المحاصيل إلا احتياجكم للأكل؛ لأنه ستأتي سبع سنوات قحط، ستأكلون فيها ما ادخرتم إلا قليلا تزرعونه مرة أخرى، وأسند الأكل للسنوات مجازا للدلالة على شدة المجاعة في تلك السنوات، والمراد: تأكلون في تلك السنوات ما ادّخرتم، وأوصى يوسف أن يُحفَظ المحصول في سنبله حتى لا يأكله السوس أو يفسد، ووصف الادّخار بالحصن لأهمية الطعام المدّخر فهو كالحصن من الهلاك.

ــ ثم زاد يوسف شيئا آخر لم يَرِد في الرؤيا، وهو قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}، أي عام خير كثير بسبب المطر، فتزيد المحاصيل لدرجة أن الناس يعصرون العنب الزائد خمرا والسمسم دهنا والزيتون زيتا، وهذه الزيادة علمها يوسف بالوحي.

ـ عاد الساقي إلى الملك بتفسير الرؤيا، فأعجب الملك بيوسف، وفرح بتفسيره، وتشوّق لرؤيته؛ لكن القرآن لم يقص علينا ذلك، وإنما نستنبطه من أمر الملك بإحضار يوسف {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}، حيث أصدر عفوا ملكيا عنه، فكيف استقبل يوسف العفو الملكي؟ وعلام بنى قراره؟

ــ لما ذهب الساقي إلى يوسف لإحضاره لم يستجب له بل اشترط! تخيّل إنسانا سجينا يرفض عفوا ملكيا ويرفض دعوة الملك له ويضع شرطا لقبول العفو والدعوة! حيث اشترط إظهار براءته، فقال للساقي: {ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، وموقفه هذا لافت للنظر، فهو مسجون ظلما، ومع ذلك يفسر رؤيا دون مقابل، ويرفض عفوا ملكيا، وقد لفت ذلك نظر النبي ، فقال: “لو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبت الداعي” سبحان الله!

ــ لكن من يتأمل تصرّف يوسف هذا يجده تصرفا صائبا؛ لأنه نبي رسول، مهمته الأساسية دعوة القوم إلى عبادة الله، فكيف يدعوهم وهو في نظرهم مقترف ذنبا مع امرأة العزيز، فكان إثبات براءته وطهارته أمام الملك والوزير والمصريين جميعا أهـم كثيرا من إخراجه من السجن! ولو خرج يوسف قبل أن يعلم الملك حقيقة أمره لبقي في نفس العزيز شيء منه، ولاسيما أن زوجته أقنعته بجُرم يوسف فسجنه.

ــ هذا الموقف النبيل من يوسف قابله موقف مماثل من الملك، فلم يغضب منه لعصيانه الأمر، بل استجاب لطلبه، فأمر بإحضار النسوة، وحضرت معهن امرأة العزيز، و{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}، وهذا السؤال يشير إلى أمرين: الأول أن الملك يدرك أهمية الموضوع؛ لأن الخطْب هو الأمر الجلل العظيم ، والثاني أنه كشف عن فلسفة دعاء يوسف: {السجنُ أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن}، فهناك لم يفصح القرآن عن مراودة النسوة ليوسف، بل أشار إلى أن امرأة العزيز هي التي راودته؛ مما يدعو المرء إلى التفكير: لماذا شمل يوسف كل النسوة في الدعاء؟ فبيّن القرآن هنا أن النسوة كلهنّ راودن يوسف، وهذا الأسلوب يدعو إلى النظرة الشمولية للخطاب القرآني، فالقرآن كله خطاب واحد، لا ينبغي أن تُفسر آية بمعزل عن الآيات الأخرى ذات الصلة.

ــ لما سأل الملك النسوة أجبْنَه {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}، وهذه شهادة حق في طهارة يوسف، وهنا أكدت امرأة العزيز براءته قالت: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}، وهذه الشهادة وسام على صدر يوسف، وفيها درس لنا في الرجوع إلى الحق؛ لأنه فضيلة.

ــ ثم اعترفت بذنبها لكنها لم تخن زوجها، فقالت: {ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ماذا حدث من الملك بعد ذلك؟ للحديث بقية.

 

بقلم د. علاء إسماعيل رئيس قسم اللغة العربية باداب المنيا

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.