كُونى رفيقةٌ بعقلى.. قصة قصيرة يكتبها د.مصطفى الطحاوى

الأم والأب يتشاجران فى الصباح الباكر.. هناك الكثير من رفع الأيدى – التشويحات – كما يقولون.. هناك بذاءات وكلمات غير مقبولة ولا تليق بين أى طرفين فما بال أن تكون داخل الرباط المقدَّس ونواة أى مجتمع ألا وهى الأسرة.. دعكم من أنَّ هناك الكثير مما داخل البيت قد هُشِّمَ أو كُسِر.

مصطفى الطحاوى
مصطفى الطحاوى

وهناك “أحمد”.. ذو التسع سنوات.. يقف على الباب بلباس المدرسة شبه المهندم (لأنَّ أحداً لم يهتم به طبعاً) ينظر إليهما.. من أسفل.. بعينين ذابلتين فيهما حسرة وقبضة شديدتان.. لا يعرف ماذا يفعل.. حتى أطالوا فى الشجار.. وهنا:

“أنا ذاهبٌ للمدرسة” قالها فى الفراغ ثُمَّ فتح الباب وخرج وأغلقه خلفه.

“من أَنهى واجباته بالأمس؟”.. المدرسة تسأل..

هناك الكثير قد فتحوا كراساتهم وكلهم ثقة وعلى ثغرهم ابتسامات بسيطة وهناك من لا يبالى وهناك الصامت.. والمُدَرِّسة تمر عليهم.

حتى وصلت إلى أحمد ولم يكن قد أنهى واجباته بعد.. بل بالكاد أنهى نِصفه. نظرت إليه من أعلى بعينين مُقَضَّبتين والعصا فى يدها تبدأ بالتلويح بها وهى تقول:

“ألم أُؤكِّد على وجوب الانتهاء من الواجبات بالكامل حتى يتم التصحيح وإبلاغ المدير؟” وعلى شفتيها انبعاجاتٌ غريبة..

لم يَرُدّ أحمد فى البدء طبعاً.. لأن السبب معروف.. ولكنه قاوم وبدأ فى التكلُّم خوفاً من العقاب :

“معلش يا مس.. أنا آسف.. أنا.. أنا.. معرفتش أحل عشان.. عشان فيه مشاكل”

“مشاكل زى إيه يعنى ؟!” مع اشتداد التلويح

“بابا وماما بيتخانقوا كتير، وأنا ببقى مش عارف أحل ولا أذاكر”..

بعض الضحكات تعالت فى الفصل.

“أنا مليش دعوى بالكلام ده كُلُّه.. أنا ليَّا الواجب يتحل.. تروح عند مامتك.. تروح عند خالتك.. عند تيتا.. المهم الواجب يتحل” وتشير له بأن يقف ويمد يديه.

لتبدأ واحدة من أقسى الجرائم فى تاريخ البشرية، لأنَّها جاءت بعد عدم فهم واحتواء لشخصية الطفل وإلمام بالموضوع.

ليبدأ الضرب على اليدين.

ولتنزل العَبَرَات من عينِى أحمد.

 

– يخرج مع صاحبه من باب المدرسة.. بعد خطواتٍ بسيطة فجأه ينقض عليه فتى مُشَرَّد من مجرمى الشارع وقاطعى الطرقات ليزيح صاحبه فى صدره بقوة ليوقعة على الأرض ثم يجثم على صدره وهو يُظهر مديةً صغيرة فى يده ويقول له:

“أنا أراقبك من فترة.. وتعجبنى الحقيبة التى تلبسها.. ستعطينى إيَّاها أم لك رأى آخر؟

ليبدأ بـ”التشويح” و”التلويح” بالمدية أمام عنقه ورأسه.. أمام نظره.

 

–  يدخل إلى البيت بملابس ممزّقه طبعاً.. وهناك بعض الكراسات والكتب فى يده مما أكرمه المتشرِّد به وأعطاه إيَّاهم.. لتخرج الأم فى هذه اللحظة من المطبخ وهى تحمل صينية طعام الغداء لتنظر إليه وتفهم ما حدث سريعاً.

“ادخل اتشطَّف وغيَّر هدومك وتعال طيِّب عشان الأكل”.

ليدخل منكِّسَ الرأس ويُنهى هذا كله ويخرج على مائدة الطعام ليجد والده جالسٌ هناك ينتظر الطعام فى نهم.

أثناء الأكل هناك مناقشة جانبية بين الزوجين، وسأله الأب عن أحداث اليوم خصوصاً بعدما شاهده صامتاً معظم الوقت هائماً فى اللاشئ.

أجابه بكلماتٍ مضطربة متلعثمه وكأنَّ له يدٌ فى الموضوع.

ليتفاجأ بضربةٍ على رأسه من الوراء والطعام فى فمه، ليتوقّف عن مضغه وينظر لأباه وهو يقول:

“أنا لم أُعلِّمك لتكون جباناً.. يجب أن تكون دائماً متفوّقاً وشجاعا!”.

ثمَّ ينظر لأمّه ليستشف منها ما الذى أجرَمهُ ليستحق هذه الضربة!.

ضربة سحقت على الأقل نصف خلاياه الحيويّة فى مخه.

سحقت تركيزه المستقبلى.

سحقت أى بقايا من رغبة فى التواصل معهم.

ضربة وَكَمَت بطنه الجائع.. بالزيف.

فعلاً.. إنَّ الرحمة تُرزَق.. لا تُكتَسَب

إنَّ الشفقة والحنّيَّة والعطف إن لم يتواجدوا، فلا طائل من وجودك أساساً.

الأم – بعدما رشفت رشفتين من الكوب الذى معها الممسكة به بكلتا يديها:

“معلش.. شوف انزل لعم “حسن” اتعلّم منه الحسابات والتجارة والكلام ده كله.. وبالمرّة تتسلّى شوية.. معلش”.

لينهض الفتى لينفّذ طلب أمه مكتوماً.. ومن ورائه أبوه يتمتم بكلماتٍ غاضبة غير مفهومة.

 

– “ثانية أشوف حاجة الناحية التانية وجايلك بسرعة” لينطلق عم حسن ليناقش تاجراً آخر فى الشارع المقابل عن أمرٍ ما، ويترك أحمد وحيداً.

يأتى زبون يكلّمه: “عم حسن سابلى كيس هنا فيه شويّة جبنه ولبن باسم الأستاذ على والحساب 20 جنيه” بلهجة واثقة قوية.

لم ينفك أحمد أن أخذ يبحث عن الكيس بعينيه وهو فى مكانه أمام هذه اللهجة الواثقة والرجل ممسكٌ بالفعل بأموالٍ فى يده. حتى وجد الكيس مكتوب عليه “الأستاذ على – 20 جنيه” ليأخذه وهو يقول له :-

“هذا هو بالتأكيد.. تفضّل”

ليتساقط بعض الجبن من الكيس وهو يناوله له.. ليسخط الرجل ويلومه وهو يلملم معه الجبن:- “مش تركِّز!”

وكأنَّه إحراجٌ آخر فى الحياه أصابه بنغزةٍ فى قلبه.

كوّر له الرجل المال فى يده بسرعة وقوه وهو يمشى مكملاً تبرّمِه.

يأتى عم حسن الآن ليسأله عن هذه الأموال ليخبره بسرعة عن ما حدث، ليقول له عم حسن وهو ينظر له نظرة ثابتة وبلهجة بطيئة:

“إيه يابنى ده؟!.. انت مش تركّز.. أنت مبصتش فى الفلوس بعد ما خدتها منه.. ده 10 جنيه مش 20 جنيه.

ليسقط فى يد الفتى هذه المرّة تماماً.

يخرج.. يجلس على الرصيف مكتئباً.. قلبه محطّم إلى مئة قطعة على الأقل.. مُطأطئ رأسه على يديه مستنداً على ركبتيه.. وظهرت الكثير من “النهنهةُ” فى صوتِه.

يرفع رأسه بعد قليل ليشاهد رجل دين بملابسه المميزة الرمزية عن المؤسسة الدينيّة المعروفة فى البلاد وهو يشترى خضراوات من على عربةٍ ما..

لينهض ويقترب منه ويشده من القفطان لينظر له رجل الدين فيقول له أحمد:

“انت مش شيخ؟”

“أيوه يابنى.. أُؤمر”

لتنزل الدموع من عينى أحمد وهو يشير له بأن يقترب – أو بالأحرى يُقرّب رأسه – منه ليقول له شئٌ ما وكأنّه سر.

ليقترب منه الأزهرى وهو يقول له:

“فيه إيه يا حبيبى.. مالك ؟!”

“أنا متضايق يا عمو.. حاسس بضيق شديد”

وهو يُطبق بأصابعه على بعضهم.

“متضايق من إيه يا حبيبى بس؟.. بشويش.. على مهلك وبالراحة.. فيه إيه؟”

وعلى الشيخ نظرة حانيه استفهاميّة.

وهنا أخذ أحمد يحكى له كل ما سبق، وما شابهها فى الأيام السابقة وهكذا.. وتأثير كل ذلك عليه.

أخذ يحكى ويحكى.. ويمسح العَبَرات من عينيه أحياناً، وكأنّه قد وجد فى الشاب الأزهرى الملاذ، والشاب ثانى ركبتيه مستنداً على كعبيه يستمع له فى صمت وطول بال.

وبعد الانتهاء.. صمت الشاب هنيهه ثم قال

“معلش يا عسل.. معلش يا بابا.. ما هو لازم”..

وأخذ يُسرِد له ما كان يجب عليهم أن يفعلوه، ويُطبطب خاطره وأشياء من هذا القبيل.. كثير كثير كثير.. والفتى يستمع له أحياناً وأحياناً أكثر يعيش فى مَلَكوتٍ آخر غير هذه الدنيا.. يسرح بخيالِه بعيداً فى الفراغ.. مخّه مع عينيه كأنهم مركب صيد هادئ فى بحرٍ واسعٍ كبير.

كأنَّه استراح بعدما حكى.. بدت عليه الاستكانة والخمود.. لقد هدأت أشجانه.. قليلاً.

كان يومِئ برأسه بين الحينةُ والأخرى وكأنّه مازال مع الشيخ فى هذه الدنيا ويُؤَمِّن على كلامه، والشيخ يمزح معه تارة ويبتسم له تارات.. وكأنَّ أحمد سكب كل ما فيه لهذا الشيخ قبل أن ينفجر، ولكن مازالت هناك بذرة عميقة شديدة الحزن بداخله.

 

أغلب ما استنبطه أحمد وفهمه من الشيخ أنَّه يجب أن يعرفوا أنَّه طفل.. بشخصيّة طفل.. بعقليّة طفل.. ويتعاملوا معه من هذا الأساس.

الاحتواء قبل النبذ

العطف قبل الشدّة

الثواب قبل العقاب

و.. “خلاص يا أحمد ؟. معلش.. حصل خير.. روح العب النهاردة وأهدى، وأنا هحاول أعدِّى عليك بكره أشوف إيه أخبارك” والشيخ يْرَبِّت على كتفيه.

و لكن الفتى كل ما كان يجول فى خاطره حينئذٍ :

“فعلاً أنا طفل.. أنا طفل.. أنا طفل ”

وهو متّجه إلى محل البقالة مرّة أخرى مطأطئ الرأس وبعض الدمعات وقد جفّت على خدَّيه ويداه متسمّرتان بجانب جسده.

 

– عم حسن بعد الرجوع لمتجره بعد انتهائه من أمرٍ ما.. يدخل ببطء محلِّه ببطنه الكبير قليلاً التى تُثقل حركته نوعاً ما.

هناك قدمان منبطحتان وراء الثلَّاجة – ثلَّاجة البقوليّات وعرض المنتجات العريضة – لبنطال مميّز.. لأحمد.

أسرع وهو فاتحٌ عينيه عن آخرهما مرعوب ليرى ماذا حدث.

أحمد مُسجى على الأرض وجرحٌ غائِرٌ بجانب رأسه وبجانب يديه غير بعيد إحدى قطع الحديد المستخدمة فى الأوزان.

وهناك ورقه من الورق الذى يستخدمه فى الكتابة أو لف الحاجات بها.. لازالت هناك فوق الثلَّاجة.. مكتوب فيها شئٌ ما.

لم يعرها اهتماماً فى الأوّل وجثى ليرى ماذا حلَّ بأحمد فى هلع وتوتُّر شديدين.

يبدو أنَّ الحَدَثْ قد حَدَثَ منذ فترة طويلة حيثُ هناك الكثير من الدماء حول رأس أحمد، ولا يوجد نَفَس أو نبض.

يبدو أنَّ أحمد قد ذهبَ من دنيانا.

وهنا قام بسرعة ليقرأ ما فى هذه الورقة ويحاول أن يستشفّ أى شئ.

وهنا قرأ.. بأصابع طفل وكتابات طفل:

“أنا حاسس إنّى عايش فى غابة مش فى دنيا.. فيه أشرار كتير حوليّا.. زى الأسد ونمر.. كلهم بيزعقوا فيا.. محدش بيحبنى.. كلهم وحشين.. أنا ههرب من البيت خالص.

يا غابة:

كونى رفيقةٌ بعقلى.

                                                                         انتهى

1- هذه القصة هى صرخة لإفاقة.. إفاقة ممّا يحدث للأطفال حول العالم.. إفاقة ممّا يتعرضون له من معاملة قاسية وعدم اعتبار لطفولتهم البريئة وسماحهم بعيشها بحلاوتها وجمالها.. إفاقة ولفت نظر من أطفال الشوارع وما يسببون من أذى لأنفسهم وللمجتمع.. تنبيه وتحذير من تعرّضهم لعمالة فى سن صغيرة فى أشغال غير مناسبة لهم وما يتعرضون له من قسوة الحياة والناس بسبب هذه الأشغال مما يدمر حياتهم المستقبليّة قبل الحاليّة.

 

كل هذا ينتج عنه نشء مهشّم داخليَّاً.. مكتئباً مريضاً.. يكون بؤرة فاسدة محطّمة بداخل المجتمع قبل أن يكون فرد منتج مُقبِل على الحياة.

 

2- أعلم أنِّى جمعت ما بين الفصحى والعامّية فى هذه القصه ولكن.. هذا ما ترائَى لى أثناء كتابتها.. وأرجو أن يُعجبكم هذا.

 

3- أعلم أنَّه من الممكن أن يكون غير وقتها ولكن.. على حسب ما جاء الإلهام وقفزت إلى عقلى فقررت أن أشارككم بها قبل أن أنسى.

 

4- أعلم أنَّهُ من الصعب أن يقول طفل جملة بالفصحى مثل “كونى رفيقةٌ بعقل” ولكنِّى.. آثرت أن أكتبها هكذا حتى تكون أوقع فى القلوب وأقوى تأثيراً.

 

و للَّه الحمد والمثلُ الأعلى

ومنه النعمةُ والفضل

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.